الرؤية الفكرية لحركة النهضة ا 2

 

منهج فهم الوحي

إن موضوع مرحلة الفهم هو البحث عن مراد الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه في نصوص الوحي، وهذا البحث يعتمد أسسا تهدي إلى الفهم ويؤدي إهمالها إلى التعسف على تلك النصوص.

أولا: الأساس اللغوي
نفهم نصوص الوحي طبقا لمنطق اللغة العربية وقواعدها وأساليب استعمالها وصيغ تراكيبها في البيان وقت التنزيل، ويجب في ذلك الاعتماد على حقائق الألفاظ والتأكد من حدود المعاني المقصودة بها والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء.

ثانيا: الأسس المقاصدي

ونفهم نصوص الوحي على أساس المقاصد الشرعية وهي المعاني والحكم والغايات التي وردت في التشريع، سواء نص عليها الشارع في الوحي أو أشار إليها، أو ما استقرئ من مجموع تصرفات الشريعة في أدلتها وعللها وأحكامها. وهذه المقاصد تتعلق بالإنسان وترجع في عمومها إلى تحقيق مصلحته الشاملة وضمان سعادته في الدنيا والآخرة، ومن المهم أن نلاحظ أن هذه المقاصد ليست بمعان خارجة عن نصوص الوحي حتى نطلب إدراكها من جهة غير جهة تلك النصوص. ومقاصد الشريعة تنقسم بحسب اعتبارات ثلاثة: فهي بحسب اعتبار أثرها في قوام أمر الأمة ثلاث أقسام: مصالح ضرورية ومصالح حاجية ومصالح تحسينية. وهي بحسب اعتبار تحقق الاحتياج إليها فعلا في قوام أمر الأمة أو الأفراد: مصالح قطعية ثابتة ومصالح ظنية ومصالح وهمية باطلة. وهي بحسب تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها وأفرادها: مصالح كلية.. مصالح جزئية. وتقدير الصلاح والفساد راجع إلى الشريعة نفسها، فالمصلحة في الشريعة الإسلامية ليست متروكة للاضطراب واعتماد الأمزجة والأهواء في تقديرها. وللمصلحة ضوابط في كشفها وتحديدها وهي:

اندراجها في مقاصد الشريعة

عدم معارضتها للكتاب العزيز

عدم معارضتها للسنة الشريفة

عدم معارضتها للقياس

عدم تفويتها مصلحة أهم منه

ثالثا: الأساس الظرفي

ونفهم نصوص الوحي قرآنا وسنة على أساس معرفة ما صح من مناسبات النزول التي تحمل من مقتضيات الأحوال ومن القرائن ما يكون ضروريا في فهم المراد من النصوص، وقد تؤدي الغفلة عن ذلك إلى صرف المعنى إلى غير محله، كأن يصرف حكم في المؤمنين وقد نزل في الكفار أو العكس.

رابعا: الأساس التكاملي

ونفهم نصوص الوحي على أساس التكامل بين أحكام الشريعة، فالتناقض فيها محال، كما نراعي في ذلك توقف بعض النصوص على بعض في تبين المراد الإلهي منها، فرب آية قرآنية ناسخة لحكم آية أخرى، ورب آية يفهم منها حكم عام وقد وقع تخصيصه في آية لاحقة.

خامسا: الأساس العقلي ونفهم نصوص الوحي على أساس ما توصل إليه العقل الإنساني من معارف وحقائق علمية، إذ أن النص قطعي الثبوت والدلالة لا يناقض الحقيقة العلمية الثابتة، فإذا كان في النص احتمال لأكثر من معنى وجاءت الحقيقة العلمية ترجح إحدى الاحتمالات، تعين في هذه الحالة فهم النص بما وافقها. وبناء على هذه الأسس نجتهد في فهم المراد الإلهي، غير أن هذا الاجتهاد في الفهم يتنوع باختلاف النص ذاته، من حيث ثبوته ودلالته، قطعية كانت أم ظنية. فالنصوص القطعية وروداً ودلالة ينحصر عمل العقل في فهمها في إدراك المعاني التي تدل عليها واستيعابها وتمثلها كتمثل الحدود والكفارات. والنصوص الظنية إما أن تكون ظنية من حيث الدلالة بحث يمكن أن يفهم منها أكثر من وجه واحد من وجوه المعاني، كالمشترك من الآيات القرآنية مثلا، أن تكون ظنية الثبوت بحصول تردد في نسبتها إلى مصدر الوحي كبعض الأحاديث النبوية. فإذا كان الحديث ظني الثبوت، كان من عمل العقل التحقق من نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بطرق من النقد معروفة في علم الحديث سندا ومتنا. وإذا كان النص ظني الدلالة كان عمل العقل متحققا في الاجتهاد في مختلف الاحتمالات التي هي مظنة أن تكون مرادا إلهيا لترجيح إحداها بقرينة معتبرة شرعا. وإذا كان سبب الظنية في دلالة النص غموض وإبهام به، فإن التأويل هو طريق الخروج منه بصرف المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي، غير أننا نقيد التأويل بشروط تحفظ من الزيغ، إذ كثيرا ما يكون التأويل مدخلا إلى التحلل من بعض التزامات الشريعة، وأهم هذه الشروط: أن يكون التأويل في مجال النصوص ظنية الدلالة أن يقوم على دليل قوي يبرره أن يكون في اللغة ما يسعه منطوقا أو مفهوما أو مجازا أن لا يتعارض مع نص قطعي أو أصل شرعي ومن المهم أن نتساءل في هذا الصدد عن القيد الزمني لهذه الأفهام العقلية، فهل هي أفهام مطلقة عن الزمن على معنى أنها مستمرة فيما بين السابق واللاحق على نفس الوضع دون أن يصيبها تغيير بتغير الزمن؟ أم أنها أفهام تنالها قيود الزمن على معنى أن كل جيل من الناس بحسب تغاير الزمان والمكان له أن ينشئ أفهاماً قد تخالف السابقين وتكون هي بدورها عرضة لأن تخالفها أفهام اللاحقين؟ إن الأفهام العقلية لنصوص الوحي تنقسم في هذا الخصوص إلى نوعين: أفهام قد ينالها التغيير بتغير الزمن، وأفهام ثابتة على مر الزمن لا يمكن أن ينالها التغيير بين السابق واللاحق. - فالأفهام القابلة للتغيير: هي تلك الأفهام التي نشأت من النظر في نصوص ظنية في ثبوتها أو دلالتها ما لم يرد فيها إجماع من الصحابة، إذ قد تكون الأدلة والقرائن التي انبنت عليها تلك الأفهام محل نظر جديد بناء على معطيات جديدة يتفطن إليها العقل أو تكشفها حقائق العلم، فيؤدي هذا النظر إلى العدول عن أدلة الترجيح وقرائنه القديمة إلى أدلة وقرائن أخرى ترجح احتمالا آخر، فينشأ فهم جديد. - وأما الأفهام التي تتصف بالإطلاق الزمني فهي على ضربين: الأفهام الناشئة من النظر في نصوص ظنية ولكنها حظيت بإجماع الصحابة عليها، فهذا الإجماع من الصحابة يسبغ على فهم النص الظني ديمومة زمنية، ولذلك كان الإجماع أصلا من أصول التشريع عند سائر المسلمين، على معنى أن الفهم الذي يحصل عليه الإجماع يصير أصلا ثابتا تبنى عليه الأحكام. وفي المسألة خلاف في الاعتبار بين إجماع الصحابة وإجماع المجتهدين. الأفهام الناشئة من النظر في النصوص القطعية، فهذه النصوص لما كانت الدلالة فيها منحصرة في وجه واحد من المعاني، كان الفهم فيها منحصرا في ذلك الوجه دون أن يناله التغيير على مر الزمان. فهذه الأفهام الثابتة لا تتعرض للتغيير بحسب الأزمان، ونحن لا نفرق بين مقاصد الوحي وبين الأساليب التي جاء الوحي للأمر بتحقيقها في حياة الإنسان، ونحن نتمسك بالمسالك والأساليب واتباع الوسائل المحددة في النصوص، فلا يمكن الفصل إذا بين المقاصد الشرعية وبين الأساليب والأشكال، على معنى أنها لا تتحقق إلا بتلك الأساليب المنصوص عليها. ونحن نؤمن بعمومية الخطاب التشريعي ولا نرى اختصاص النص بظروف نزوله وأسبابه، فمنهاج الخلافة الذي جاءت نصوص الوحي تحدد مسالكه، لم يكلف به قوم دون قوم، ولا أهل زمن دون أهل زمن آخر، فإن عمومية الخطاب بالوحي تقتضي أن يتعامل المكلفون به في كل زمن مع مقتضيات اللسان العربي الذي جاء في ضبط التكاليف بما يفيد العموم إلزاما للإنسان مطلقا عن الزمان والمكان، ولا يقوم دليل قط ـ لا عقلي ولا نصي ـ على أن هذه النصوص يخص بالتكليف من تعلقت به ظروف نزولها دون غيرها، إلا أن تكون حالات معدودة ورد فيها تنصيص جلي على التخصيص. لذلك ورد إجماع الأصوليين على القوم بأن العبرة في الخطاب بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ونحن نرى أن الأوضاع السائدة بقيمها ومفاهيمها لا تحدد أوجه الفهم في النصوص القطعية "كالتعدد في الزواج ـ الحدود ـ منع الربا الخ"، فلا يتأسس عندنا الفهم العقلي على معطيات الواقع الإنساني فحسب. ونحن نعتبر الاجتهاد في الفهم مفتوحا بابه وليس قصرا على جيل دون جيل ولا زمن دون آخر إذا توفرت شروط الاجتهاد. وليس معنى الاجتهاد أن نهمل الفقه الموروث أو نحط من قيمته، وإنما المقصود من ذلك أن نعيد النظر في تراثنا الفقهي العظيم بمختلف مدارسه ومذاهبه وأقواله المعتبرة في شتى العصور لاختيار أرجح الأقوال فيها وأليقها بتحقيق مقاصد الشريعة وإقامة مصالح الأمة في عصرنا في ضوء ما جد من ظروف وأوضاع. كما أننا نعني بالاجتهاد العودة إلى المنابع الأصلية وهي نصوص الوحي الثابتة والتفقه فيها على ضوء المقاصد العامة للشريعة، كما نعني بالاجتهاد أيضا استنباط الأحكام المناسبة في ضوء الأدلة الشرعية للمسائل والأوضاع الجديدة التي لم يعرفها فقهاؤنا الماضون. وأما على مستوى الاستدلال وهو طلب الدليل الشرعي للتوصل بالنظر الصحيح إلى الحكم الشرعي، فنحن نقول إن أدلة الأحكام بمعنى أصول التشريع ومصادره ليست كلها في مرتبة واحدة، بل هي متفاوتة المراتب في الاستدلال بها. فالأدلة نوعان:

أدلة أصلية: وهي القرآن والسنة: ولا تتوقف دلالتهما على الأحكام على دليل آراء. والدليل الأول هو الكتاب أو القرآن، وهو كلام الله تعالى الذي نزل به جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم باللفظ العربي المنقول إلينا بالتواتر المكتوب بالمصاحف المتعبد بتلاوتها، المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس. فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع، ويجب العمل بما ورد فيه والرجوع إليه لمعرفة حكم الله تعالى، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره من مصادر التشريع إلا إذا لم يقف العالم على الحكم في القرآن الكريم، فهو أساس الشريعة الإسلامية وأصلها ومعتمدها في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع، وإنه المرجع الأول في كل ذلك، وإنه المحتكم إليه عند الاختلاف. والدليل الثاني هو السنة المطهرة، وهي ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فالسنة الصحيحة الثابتة التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد التشريع حجة على المسلمين وهي حجة كاملة في ثبوت الأحكام، وهي مصدر تشريعي مستقل تأتي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم. أدلة ثابتة وتتوقف دلالتها واعتبارها على سند شرعي، وأهمها الإجماع والقياس، وقد زاد أصوليون أنواعا أخرى مختلف فيها بين الأئمة كالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب وغيرها. ومع هذا الاختلاف في العد والاعتبار، فالقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، فهما المصدران الأساسيان اللذان تراجع إليهما كل المصادر الأخرى، وأن كل نزاع أو خلاف فمرده إليهما، بل إن كتاب الله هو أصل الأصول ومصدر المصادر وهو الحكم في كل شيء. ثم يجيء بعد الكتاب والسنة.. الإجماع، إن تحقق ونقل نقلا صحيحا، ثم الرأي والاجتهاد الذي يتنوع إلى أنواع.

منهج تطبيق الوحي: ونحن إذ نؤكد على أهمية مرحلة الفهم التي تصل أحكام الوحي بالعقل تصورا واستيعابا للمراد الإلهي، فإننا نعتبرها مرحلة أساسية تمهد لمرحلة التطبيق التي تصل الأحكام بالواقع الإنساني بغاية الانسجام بينهما، ذلك أن الوحي لم ينزل لمجرد الاستيعاب والتمثل في العقل فحسب، وإنما نزل بغاية إجراء أفعال الإنسان على أحكامه بما يحقق مصلحته الشاملة. وهذه الغاية تتحقق بالتزام منهج في تطبيق أحكام الوحي على الواقع يحقق صلاح نظم الشريعة لكل زمان ومكان. ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدة، وإنما أتت بأمور كلية وأحكام عامة تتناول أعدادا لا تنحصر من الأعمال في الواقع، لذلك وجب الاجتهاد في إلحاق الأفعال وجزئياتها بأجناسها كحركة الربا والظلم ووجوب الشورى والعدل. ونحن نقدر هذا العمل الاجتهادي حق قدره، إذ أن تطبيق أحكام الوحي تطبيقا آليا بدون وعي بمقاصدها وطبيعة الواقع المنزلة فيه قد يؤدي إلى فوات مصلحة أو إلحاق ضرر بالناس من حيث قصد الشارع تحقيق النفع لهم، ولذلك فإننا نقيم منهج تطبيق الوحي على أساسين رئيسيين هما: العلم بعلل الأحكام، والعلم بالواقع المنزلة عليه الأحكام.

العلم بعلل الأحكام: إننا كما نفهم نصوص الوحي على أساس مقاصدها فإننا نتقصى علل الأحكام في التطبيق، ذلك أن هذه العلل هي مقاصد قريبة تنتهي إلى تحقيق المقصد العام، والعلة هي وصف مناسب لظاهرة منضبطة أناط الشارع به الحكم، والأحكام تناط بعللها وتدور معها وجودا وعدما، وهذه العلل يجتهد العقل في ترتيبها وتنقيحها وتحقيقها، فمنها ما هو واضح تنصيصا أو إشارة بالوحي، ومنها ما يستلزم البحث والتقصي على ضوء المقاصد العامة للشريعة، ولا سبيل لأن يقال على هذا الأساس بتعطيل حكم شرعي اعتمادا على مقصد فرعي مع إهمال مقصد كلي، ذلك أن المقصد العام مقدم على المقصد الخاص. لذلك فإننا نعمل على تحري مقاصد الأحكام في نصوص الوحي قدر الطاقة باعتباره أصلا في تنزيل الأحكام على الوقائع.

العلم بالواقع: انطلاقا من وعينا بتطور المجتمعات وعدم ثباتها على نسق واحد، فإننا نؤمن بأن تطبيق الأحكام الشرعية على الواقع يجب أن يسبق بعلم واسع بواقع الأفعال الإنسانية المعينة، يشمل مختلف أحوالها وأسبابها ودوافعها وتأثرها وتأثيرها، ونستخدم في ذلك جملة من وسائل المعرفة الباحثة في هذا الواقع مثل علوم النفس والاجتماع والإحصاء والاقتصاد ونهدف بهذا البحث في الواقع إلى تحديد ما إذا كان الفعل يتدرج تحت الحكم المعين ليطبق عليه أو يندرج تحت حكم آخر. وتقدير ما إذا كان هذا الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل تطبيق الحكم عليه مؤديا إلى تحقيق المقصد القريب فيطبق، أو غير محقق فلا يطبق، ونحن نقدر كذلك أن الجهل بالواقع الإنساني في تطبيق أحكام الوحي قد يفضي إلى فوات مصلحة الإنسان وحصول الضرر. وعبر هذين الأساسين ينطلق العمل الاجتهادي بهدف الملاءمة بين التكاليف الواردة في الأوامر والنواهي، وبين المقاصد الشرعية وبين صور وأشكال عملية لأفعال الناس، نظرا إلى تعدد واختلاف الأفعال الإنسانية في جزئياتها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة، فإن هذا العمل الاجتهادي لا يداخله التقليد بوجه من الوجوه إلا أن يكون استضاءة بأحكام سابقة من المفتين والعلماء طبقوها على أحداث ووقائع مشابهة، وهذا يقتضي أن يحدد النظر الاجتهادي في كل وضع واقعي جديد، سواء تمثل في حالات فردية أو في مظاهر عامة. وبناء على هذا يتحدد منهج الحركة في تصور التراث، فهي تعتبر ماضي الأمة متشابكاً مع حاضرها، فالفكر الإسلامي إنما ينمو ويتكامل بإضافة اللاحقين إلى ما بناه السابقون، لا بهدمه أو تركه جملة. وهذه الإضافة قد تتخذ شكل التهذيب والتنقيح أو الانتقاء والترجيح أو التصحيح والتعديل أو التكميل والتجديد. فلا تلغي الحركة ثراء تراثنا، بل تعتبر أن فهم كثير من القضايا يمر عبر فهم التراث واستيعابه بدرجة أولى بدل إهماله أو احتقاره، كما أن الحركة لا تعتبر ما لا يندرج ضمن التشريع نموذجا يجب احتذاؤه وإسقاط قيمه وأشكاله العملية على الواقع على وجه الالتزام "كأشكال الحكم التي سادت ـ أساليب توزيع الثورة ـ علاقة الرجل بالمرأة ـ الملكية ..." بل لقد كان تاريخ الأمة حقلا لتجارب بشرية في مجال الفكر والاجتماع والسياسة، تفاعلت مع الإسلام بطريقتها الخاصة والمتأثرة بخصوصيات الظرف التاريخي، مما طبع كل تصوراتها وأوضاعها بطابع قد لا يتحمله الحاضر، ومن باب أولى المستقبل. ونحن نتعامل مع هذه التجارب من منظور تحليلي نقدي يفهم عوامل التخلف والانحطاط فيها ـ وهي كثيرة ـ، ويستلهم من جوانبها الإيجابية ما يؤصل هويتنا ويطور واقعنا ويثري نهضتنا. ونحن واعون تمام الوعي بالفرق الجوهري بين هذا التراث بتطبيقاته التاريخية وبين الوحي بنصوصه المطلقة إذ الوحي جاء بغاية أن يصبح حياة للناس، وأن تكون أوامره ونواهيه سيرة عملية للخلق. وفي طبيعة خطابه المتصفة بالعموم والشمول والإطلاق فسحة للاجتهاد في تنزيل الأفهام على واقع الحياة تبيانا لما يندرج تحت كل حكم من وقائع، وتثبتا من استجماع الوقائع للشروط التي تخول تنزيل الأحكام عليها. فلقد حصل خلط عند البعض بين مستويين في تعامل العقل مع الوحي: مستوى الفهم ومستوى التنزيل، وجعلت تبعا لذلك الإمكانية المطلقة للتطبيق الفعلي في كل الأزمان قيمة على أصول الفهم، فيكون الفهم بذلك تابعا لإمكانية التطبيق. ويتوهم هؤلاء أنهم يحاكون عمر بين الخطاب رضي الله عنه، والحق أن فهمه رضي الله عنه لبعض الأحكام لا يعد تعطيلا ولا تغييرا، ولكنه رأى أن شروط التنزيل على الواقع أصابها خلل ـ اجتهادا منه في التطبيق وليس تعطيلا في فهم النص القطعي.