الرؤية الفكرية لحركة النهضة 1

الرؤية الفكرية والمنهج الاصولي لحركة النهضة التونسية

 إن حركة الاتجاه الإسلامي بتونس تتخذ منطلقاً لها العقيدة الإسلامية المباركة: القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي إليها يعود تحديد المواقف والرؤى إزاء قضايا الوجود عموما والوجود الإنساني بصفة خاصة. وترى أن أي عمل تغييري نحو الأفضل، وأي منهاج للحياة، يجب أن ينبثق عن جملة تصورات واضحة لمنزلة الإنسان ووظيفته في هذا الوجود وعلاقاته ببقية عناصر الكون، لأن هذا المعنى به ترتبط كل الحياة. وانطلاقا من مبدأ التعامل الصادق والمسؤول مع ديننا الحنيف، واعتمادا على مبدأ الشمول في فهم الإسلام بشكل لا يحصره في مجال العقائد والشعائر، بل يتعداه ليشمل إلى جانب ذلك الحيز الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، نرسم في ما يلي الأسس العقائدية والأصولية لحركتنا، حيث تكون معالم نلتقي حولها ونجعلها منطلقا نبني عليه عقيدتنا، ونتفاعل به مع الواقع فكراً وممارسة. ولا يفوتنا أن نشير أننا لا نؤسس عبر هذه الأسس عقيدة جديدة ولا تصورا مقطوع الجذور، وإنما هو رصد لمنهج التقى عليه أبناء هذه الحركة، ينطلق من كناب الله العزيز، ويسترشد بالفكر الإسلامي عبر مساره الطويل. ونحن نقدر أن هذه الأسس العقائدية والأصولية، حقيقة بأن تستنهض همم الكافة للتفاعل معها بكل رشد وإيجابية، وللتعامل من خلالها معنا ككيان واضح الأسس محدد المعالم. وتضم هذه الأسس محورين رئيسيين:

* محور عقائدي

* محور أصولي منهجي

تتبوأ العقيدة مكانة مركزية ضمن النسق الإسلامي العام، فهي الأساس الذي تنساب منه بقية التصورات والأفكار والأحكام، وعليه كلما صحت العقيدة وسلمت من الشذوذ والانحراف، كلما استقامت صور الحياة واندفعت نحو الأفضل والأكمل. ولـمّا كان للعقيدة مثل هذا الدور في حياة الإنسان وصلاح الكون، اقتضى ذلك انبناؤها على اليقين الذي لا يرتقي إليه احتمال، ولا يداخله ظن. وإن عقيدتنا لتستقي أركانها من القرآن الكريم والسنة المتواترة، وتستقي فروعها من ظواهر الكتاب المعضدة بما صح من أحاديث نبوية مجتمعة. وأركان العقيدة ستة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر. وقد ورد ذكرها جميعاً في آيات محكمات. قال تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" [البقرة 285 ] وقال أيضا: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون" [ التوبة 51]

 

 

الإيمان بالله تعالى
إن عقيدة المسلم تقتضي الإيمان والتصديق الجازم بوجود الله، كما أخبر سبحانه وتعالى بذلك، وهو اطمئنان القلب وسكون النفس إلى ذلك بحيث لا يبقى في القلب أدنى مرض وظلمة، ولا في العقل أقل شبهة أو ريبة في وجود الله جل جلاله، فلو ضل الناس جميعا عن الإيمان به، ثبت هو على ذلك الإيمان. والإيمان بأن الله واحد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، هو الأول والآخر، عليم حكيم عادل حي قادر سميع بصير، ولا يوصف بما توصف به المخلوقات، وأنه خالق كل شيء ومدبر أمره: "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" [ الأعراف 54 ] وأن وجوده مباين تمام المباينة للوجود الكوني ذاتا ووضعا. ونؤمن أن له ذاتا سبحانه، وصفات لذاته، وهو المتصف بكل صفات الكمال، والمنزه عن كل صفات النقص: "فاطر السماوات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [ الشورى 11] وهو الغني عن الشريك في الذات والصفات، وأن الوحدانية من أخص خصائص الألوهية والربوبية المطلقة. ونؤمن بما وصف به نفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو المنزه عن المشابهة بخلقه، وعليه فإن ألفاظ النصوص المفيدة للتشبيه لا تفهم على ظواهرها، بل نضعها في إطار التنزيه المطلق. ونؤمن بأنه المتفرد بالحاكمية المطلقة وبالعبادة له دون سواه: "والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب" [الرعد 41 ] "وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" [التوبة 31 ]

 

الإيمان بالملائكة إلى جانب إيماننا بعالم الشهادة فإننا نؤمن بعالم الغيب، والملائكة أحد عناصر هذا العالم، كما أخبر بذلك القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم، وهم مخلوقات غيبية من نور محضهم الله تعالى للخير والعبادة وتنفيذ أمره القاهر. وأن الإيمان بالملائكة ليحي في النفس البشرية من المعاني ما يجعلها تستوحي أكثر فأكثر صور الخير والرحمة والعدل أثناء سعيها إلى الاكتمال والقيام بأعباء الأمانة، كما يزكي شعور الأنس والاطمئنان أثناء مجاهدة قوى الشر المختلفة.

الإيمان بالكتب إن إيماننا بالله يقتضي الإيمان بأنه سبحانه قد أنزل على رسله عليهم الصلاة والسلام، كتباً مقدسة لهداية الناس والتشريع لهم، وإن ما بقي منها اليوم بين أيدي أهل الكتاب هي كتب حرفها المفسدون منهم، فلا تعتمد لاختلاط الحق بالباطل فيها، وأن القرآن الكريم جاء مهيمنا عليها وملغيا لاعتبارها، فكان هدى خاتما وحجة قائمة على الناس كافة إلى قيام الساعة. والقرآن هو كلام الله الأزلي الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظه العربية ومعانيه الحقيقية من الله عز وجل، وهو مصدر هذه الشريعة الأول ومرجع كل أدلتها، والأصل الذي يتفرع عنه كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ينبوع الحكمة وآية الرسالة. وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه من التحريف والتزييف “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" [ الحجر 9]

الإيمان بالرسل وهو الاعتقاد الجازم بأن الله ـ رأفة بعباده ورحمة بهم ـ قد بعث في كل أمة منهم رسولا، وهم بشر اصطفاهم المولى سبحانه من بين عباده، وخصهم بالوحي، وعصمهم دون سائر الناس من النقائص، وحفهم بالرعاية والعناية الربانية. والوحي هو تلقي نبأ مقطوع بمصدره الإلهي بغير السنن والطرق المعهودة عند البشر، وإننا نؤمن بجميع رسل الله الذين ورد ذكرهم في القرآن أو لم يرد، دون تفريق بينهم، فنشهد لهم جميعا بالرفعة والعصمة والأمانة والصدق والتبليغ، وإن كنا نقر تفاوت منازلهم عند الله تعالى. مرتبة الطلب، فلا يقبل عمل إذا لم يكن وراءه هذه العقيدة كدافع للعمل وواقع حسبما تقتضيه هذه العقيدة. فإن اختلت العقيدة أو فسدت أو كانت باطلة أو لم تتضمن أصولها كان العمل فاسدا أو غير مقبول، وبقدر رسوخ معالم العقيدة وأصولها في النفس يكون العمل ثقيلا في ميزان الحساب. وعليه، فإننا لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وتوابعها مما سبق ذكره، وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض برأي أو معصية، إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل لا يحتمل تأويلا غير الكفر. إن العقيدة في التصور الإسلامي ليست مجرد معرفة تجريدية طبيعتها التأبي عن معالجة الواقع وبحث قضاياه، بل هي نظام كامل متناسق في حياه الإنسان والكون، وهي توحيد الطاقات والقوى والميولات والنوازع في اتجاه الخير والعدل والحق، ولها صور عملية واقعية وأبعاد في حياة الفرد والمجتمع. وأن النسق العقائدي يستمد موازينه وقيمه ومفاهيمه من إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية والعبادة والسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه، ويقدم للإنسان رؤية متكاملة ينظر بها إلى الكون والحياة ونهجا شاملا في تصرف الإنسان، سواء في سياسة نفسه فرداً أو مجتمعاً أو في تعامله مع الكون أو في صلته بخالقه، وبذلك يكون التوحيد في التصور الإسلامي هو مسار للطبيعة وكائناتها، وغاية لإبداع الكون، وهدى للحياة، ووسيلة لبناء الحضارة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وليس نظرية ذهنية أو لفظ يتردد على الألسن من دون محتوى أو منهج يحدد العلاقات الكونية والاجتماعية: "ولقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان" [الحديد 25 ] وعلى هذا الأساس من التوحيد، فنحن لا نفرق بين التوجه لله بالشعائر والتلقي منه في الشرائع، لا نفرق بينهما بوصفها من مقتضيات توحيد الله وإفراده سبحانه بالألوهية والحاكمية، ولا نفرق بينهما لأن الانحراف عن أي منهما يخرج صاحبه من الإيمان والإسلام قطعا. وبذلك، فالتصور الإسلامي يعلن تحرير الإنسان من نوازع الهبوط والارتكاس وظلمات الشرك والجهل والخرافة والخوف، ويعلن تحرير العلاقات الاجتماعية من كل ألوان التسلط ومهاوي الهلاك والسقوط في المظالم ومحق الكرامة الإنسانية "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" [ الأعراف 157 ] ويقوم التوحيد في فهمنا، على دفع الإنسان إلى منطقة الفعالية والتأثير واقتحام الكون ثقة واطمئنانا، لمنع أي ضرب من ضروب الظلم والاستغلال والتفكك المعيقة لدور الإنسان في الخلافة والعمارة: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" [البقرة 29] إن العقيدة الإسلامية في فهمنا تقضي على كل العوائق القائمة على تجميد طاقات الإنسان وإهدار إمكانياته وكرامته، وتركز معاني المسؤولية للنهوض بأعباء الأمانة في ممارسة دور الخلافة عبادة لله، وبذلك يجسد الإنسان ضمن هذا التصور معاني الاستخلاف والاقتراب من الله والكدح المستمر: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" [ الانشقاق 6 ] وهذا التجسيد للاستخلاف يبدأ بتحرير النفس من آثار العبودية لغير الله تعالى، والثورة العامة على عوامل الخوف والسلبية، ويدعو إلى الجهاد في سبيل إحلال العلاقات الاجتماعية والسياسية القائمة على أساس قيم الحرية والخير والعدل. وإن حملة التوحيد وهم يقدمون للبشرية هذا التصور الجديد، يقيمون معه منهجا كاملا للحياة، يقوم على تكريم الإنسان وعلى إطلاق يديه وعقله وضميره وروحه من كل عبودية، وعلى إطلاق كل طاقاته لينهض بالخلافة عن الله في الأرض، عزيزا كريما كما أراده خالقه، وفي نهوضه بالخلافة وهو حر كريم يملك أن يقدم إضافة حضارية وهو في أوج حريته وفي أوج كرامته وعزته، حتى تتخلص الإنسانية من الضياع والتيه عبر بناء صرح الأمة الإسلامية الموحدة، وإقامة دولة الحق والحرية والقوة والعدل، التي تأخذ بيد الإنسانية نحو طريق العبودية لله وحده، وتنصر المستضعفين في الأرض.

المحور الأصولي المنهجي إن قضية العقل والنص يجب أن توضع في سياق التأصيل المنهجي والعقدي والمعرفي، حتى لا تطرح ببساطة وانبتات. فهذه المسألة فرع من تصور عقدي شامل يتعلق بمنظومة متكاملة، وإذا كان الهدف من دراسة هذه القضية ومن معالجة العلاقة بين العقل والوحي هو تحديد ما لكل منهما من دور في إنجاز مهمة الإنسان في الوجود، فإن السياق يقتضي أن تطرح هذه القضية ضمن تأصيل عقائدي.

منزلة الإنسان في العقيدة الإسلامية تفسر العقيدة الإسلامية الوجود على أنه يشمل طرفين: الأول هو الله جل جلاله والثاني ما سواه من عناصر الكون جميعا. والإنسان كائن ينتمي إلى الوجود العالمي ضمن الطرف الثاني، ولذلك فهو يشترك مع سائر المخلوقات في مظاهر واحدة مثل الاشتراك في المأتى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو" [ غافر 62 ] والاشتراك في المصير: "ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير" [ المائدة 18]. والاشتراك في بعض عناصر التكوين "والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع" [ النور 45] غير أن الإنسان في وحدته مع عناصر الكون، يمتاز عليها بالرفعة في مظهرين هما: التكريم والتسخير. وقد ظهر تكريم الإنسان في أول لحظة من وجوده بسجود الملائكة له ـ وهي أشرف المخلوقات ـ مؤذنا بتراجع ما دونها. وبتكوينه من عنصرين أساسيين لم يستجمعهما أي مخلوق آخر، هما: العنصر الترابي المادي والعنصر الروحي العقلي وهو ميزة الإنسان على غيره، إذ من آثاره: -القدرة على استيعاب العالم الخارجي استيعابا معرفيا يسهل له الإشراف عليه "وعلم آدم الأسماء كلها" [البقرة 31ـ] وذلك بما يجمع الإنسان في تكوينه من عنصري المادة والروح الذين تفرقا في الكون. -حرية الإرادة والاختيار، فقد خلق الإنسان مزودا بملكات واستعدادات يميز بها بين الحق والباطل في العقائد، وبين الخير والشر في الأفعال، وبين الصدق والكذب في الأقوال: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" [ الإنسان 3] "وهديناه النجدين" [البلد 10 ] وقد يسر الله عز وجل للإنسان سبل ذلك التمييز بما أرسل به رسله من بينات لقوم الناس بالقسط، ويتبع هذه الحرية مسؤولية في تحمل تبعات الأعمال: "كل نفس بما كسبت رهينة" [ المدثر 18]. فيكون الحساب في اليوم الآخر حسب تلك الأعمال وهو مقتضى العدل الإلهي الذي وسع كل شيء. ومن شأن إدراك هذه المسؤولية والإيمان بما يتبعها من ثواب وعقاب، أن يجعل لحياة الإنسان غاية سامية هي التعلق بالخير وفعله ونبذ الشر وتركه وتحقيق خلافة الإنسان على الأرض. ويظهر تميز الإنسان في هذا الوجود تميز رفعة عن بقية عناصر الكون في تسخيرها له بما يخول له توظيفها في مصلحته وفق منهج الخلافة في الأرض: "وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" [الجاثية 13] ويبدو هذا التسخير فيما صنع عليه من هيئة تتلاءم مع المهمة التي أنيطت بعهدة الإنسان وهي مهمة الخلافة، ونحن إذ نؤكد على هذه المعاني العقائدية إنما نبرز أبعادها الأخلاقية على سلوك الإنسانية، إذ يؤدي الاعتقاد بوحدة الإنسان والكون إلى تحقيق الشعور منه وينفي مشاعر الخوف والعداء له، ويؤدي شعور الرفعة بالتكريم والتسخير إلى اقتحام الكون واستثمار موارده: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" [ الملك 15] كل ذلك يعتبر إطارا مساعدا لأداء الإنسان وظيفته كما ارتضاها له خالقه سبحانه وتعالى، وهي الخلافة في الأرض، على معنى أن يكون خليفة في الكون ينجز تعاليمه بما يؤدي إلى تحقيق مصالحه التي يستجمعها ترقيه فردا ومجتمعا، عبر التفاعل مع الكون وعمارة الأرض، وفيما جاء في آية الخلق: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" [ البقرة 30]. من تسمية الإنسان بهذه الوظيفة دلالة على محورية هذه الوظيفة للوجود الإنساني ومنهج تحقيق هذه الخلافة وهو العبادة: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" [ الذاريات 56] وهذا المدلول للعبادة يندرج فيه كل السلوك الإنساني فهو عبادة إذا كان مستجيبا للأمر الإلهي. وبهذا المعنى للعبادة يتوجه الإنسان إلى الله بكل خاطرة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل سعي في الحياة، توجها خالصا متجردا من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى الخضوع لله. وبهذا التوجه يتحقق معنى العبادة، فيصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، وهذا كله تتضمنه وظيفة الخلافة التي تقتضي القيام على شريعة الله في الأرض. إن أداء هذه المهمة الوجودية كما رسمتها العقيدة الإسلامية يضفي على الوجود الإنساني قيمة عظيمة تتحقق بها العزة والكرامة، لأنها مهمة بعيدة الهدف، مما يجعل الإنسان وهو يسعى إلى تحقيق ذلك الهدف البعيد "مرضاة الله بتحقيق أوامره في ترقية الذات وعمارة الأرض" يستصغر كل الأهداف الصغيرة التي من شأنها أن تبدد جهده وتعطل من سعيه إلى الكمال.. وقد جاءت الرسالات السماوية بواسطة الرسل الكرام عليهم السلام تتابع الواقع الإنساني في تطوراته وتقلباته، لترشيد الإنسان إلى هذه الوظيفة ومنهج تحقيقها ثم جاءت النبوة الخاتمة تحدد المنهاج النهائي للخلافة، ليكون الموجه الأبدي للإنسان، فيما ينبغي أن يعتقد من حقيقة الوجود وفيما ينبغي أن يسلك في تصريف الحياة. وقد زود الله هذا الإنسان بالعقل وجعله أساسا للتكليف بالخلافة لما ركب فيه من قدرة على إدراك الحق وتحمل الأمانة. فكيف يكون تعامل العقل مع الوحي في سبيل استجلاء مضمون المنهج الخلافي أولا، وفي سبيل تنزيه في الواقع ثانيا؟

الوحي والعقل لقد انتظمت أنظار الفكر الإسلامي في هذه القضية في قطبين: قطب نصي: اعتبر المنتمون إليه أن تعاليم الوحي هي المحدد الوحيد في كل الأزمان للمنهج الخلافي، دون أن يكون للعقل سوى دور التنزيل المباشر لظواهر النصوص، وقد ترددت هذه الوجهة بين درجات من الحرفية المتفاوتة، مثلتها الحشوية والظاهرية ونفاة القياس. قطب عقلي: قام على الـتأويل والمقاصد، وترددت هذه الوجهة بين إهدار الدلالة اللغوية وبين القول بالظرفية الزمنية للأحكام النصية، وقد مثلها الباطنية وغلاة المؤوّلة. وانتهى الأمر في القضية إلى اختزال لدور العقل إلى ما يقارب الإلغاء، واختزال لدور الوحي إلى ما يقارب الإهدار. ولمعالجة هذه المسألة ينبغي التعرض لحقيقة وخصائص كل من الوحي والعقل:

حقيقة الوحي وخصائصه:
الوحي "السمع أو النقل أو النص" هو جملة التعاليم الهادية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم مبلغا إياها عن ربه، ومنضبطة في النص القرآني ونصوص الحديث الشريف: "قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون" [ الأنباء 45] وللوحي خصائص منها: إن مصدر الوحي هو الله ولا مدخل لذات النبي فيه، فالقرآن إلهي المصدر لفظا ومعنى، والحديث القدسي إلهي المصدر في معناه دون لفظه، كما أن الحديث الشريف لا يخرج عن كونه وحيا لقوله تعالى "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" [ النجم 4] خطاب الوحي كلي عام للناس كافة إلا ما جاء دليل بتخصيصه، ذلك لأن الإسلام جاء يخاطب كل البشر: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" [ سبأ 28] خطاب الوحي شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" [ النحل 89] حقائق الوحي مطلقة، لأنها صادرة عن علم إلهي مطلق بما ينبغي أن يكون في حياة الإنسان، ولذلك فهي غير خاضعة للتعقيب الإنساني في ذاتها، سوى العمل العقلي لاستجلاء أحكام الوحي: "والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب" حقائق الوحي لا تنافي حقائق العقل ومبادئه وإنما هي جارية على مقتضاها، لأن مناط التكليف هو العقل، وإذا افتقد العقل ارتفع التكليف أصلا.. أحكام الوحي راجعة غالبا إلى الحكم على أجناس الأفعال، كحلية البيع وحرمة الربا، وبالنظر العقلي الخالص يتم إلحاق أفراد الأفعال بأجناسها حسب الزمان والمكان. إن الوحي إذا كان في مجالي العقيدة والعبادة فإنه يحدد مبادئ وأحكاما تفصيلية نهائية لا مجال لتغييرها عملا بالقاعدة الأصولية: لا يعبد الله إلا بما شرع، وإذا كان الوحي في مجال التشريع الاجتماعي والسياسي، "أو ما يسمى فقه المعاملات" فإنه عدا بعض الاستثناءات المحددة ـ يكتفي بوضع أصول كلية ورسم قواعد عامة تفتح أمام العقل البشري مجالا متسعا يمكنه من الاجتهاد في استنباط ما لا نهاية له من التطبيقات العملية لتلك الأصول، وتحويلها إلى تشريعات تفصيلية متصلة بواقع الحياة تمسح كامل جوانبه، ومتلائمة مع مستلزمات كل تطور يمر به المجتمع والإنسانية عامة. فالوحي لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة بوصفها علاجا موقوتا أوتنظيما مرحليا يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، ولكن يقدمها دائما باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور، والقادرة على التكيف وفقا لظروف مختلفة. وعلى هذا الأساس ترك الوحي منطقة فراغ في الصورة التشريعية التي نظم بها الحياة، لتعكس العنصر المتحرك وتواكب تطور العلاقات وتدرأ الأخطار التي تنجم عن هذا التطور المتنامي على مر الزمن. إن منطقة الفراغ تعبر عن قدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الوحي لم يترك منطقة الفراغ هذه بالشكل الذي يعني نقصا أو إهمالا، وإنما حدد للمنطقة أحكاما تمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصلية، مع إعطاء المجتهدين صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية بحسب الظروف لملء ذلك الفراغ. يشتمل الوحي على نصوص قطعية الدلالة، لا تحتمل إلا معنى واحداً ونصوصا ظنية الدلالة يتردد معناها بين وجوه محتملة تتسع لها أساليب العرب في القول كالتردد بين الحقيقة والمجاز، وبين الإطلاق والتقييد، وبين العموم والخصوص. كما يشمل نصوصا قطعية الورود وهي القرآن والحديث المتواتر، ونصوصا ظنية الورود وهي أحاديث الآحاد..

حقيقة العقل وخصائصه: العقل وسيلة إنسانية للإدراك والتمييز والحكم، فهو قوة إدراكية معيارية حمل على أساسها الإنسان أمانة الخلافة وخوطب على أساسها بالوحي ليتحمله فهما وتطبيقا. ومن خصائص العقل: أنه وسيلة بوسعها إدراك الحقيقة إذا التزمت بالموضوع والمنهج، وقد جعل الله إهماله موجبا للوم والتقريع "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" [ الملك 15] إن له دورا هاما في إثبات قضايا العقيدة بالنظر في الآيات الكونية، ودورا هاما أيضا في استيعاب الوحي المجرد من جهة، وتفريغ ما تركه للتفصيل بحسب المتقلبات المستمرة في الحياة من جهة أخرى، والنظر في منهج تطبيق هذا أو ذلك على الواقع الإنساني من جهة ثالثة. إنه لا يصل إلى الحقيقة مباشرة، وإنما يسلك طريقا أساسها النظر أو الفكر. وهذا الطريق يتصف بالمرحلية والتدرج والترابط، فهو طريق المقايسة والموازنة والانتقال بين المقدمات للوصول إلى النتائج. وفي هذه المراحل من الأخطار ما يهدد بإعاقة العقل عن إصابة الحق، فالإنسان خلق عجولا مما قد يعرضه لتعجل المراحل في النظر العقلي، وركب على نزعات من الهوى قد تشوش عليه ترتيب تلك المراحل، كما أنه اكتسب في خضم حياته الانشداد إلى موروث الواقع والعادة مما قد يؤدي به إلى الغفلة عن مراحل النظر. إن العقل الإنساني محكوم بظروف المادة زمانيا ومكانيا، لأنه يعتمد معطيات الحس، وهذه المعطيات لا تمكن من إصابة الحق المطلق في تقدير ما ينبغي أن تكون عليه الحياة الإنسانية فعلا وتركا، وغاية ما في الأمر أنها تمكن العقل من الإدراك النسبي للحق والخير.

تحديد قيمة الأفعال الإنسانية بين الوحي والعقل: تنطوي الأفعال الإنسانية على أوصاف تقويمية لها ذاتية فيها غير مضفاة عليها من خارجها، وإن نفي هذه القيمة يؤدي إلى حرج عقلي وحرج ديني عظيمين، إذ العقل يأبى دعوى التناقض في قيمة الشيء الواحد، والشرع يأبى التسوية بين المتناقضين كالسجود لله والسجود للطاغوت. إن القيمة الذاتية للأفعال الإنسانية تندرج ضمن ما ركب الله عز وجل عليه الكون من سنن وعلل وأسباب، فهذه القيمة ليست مستقلة عن ذلك التدبير الإلهي. الوحي هو المصدر الأول الذي يكشف عن تلك القيمة ويخبر عنها ويقدر الأفعال على أساسها، ذلك أن الله هو صاحب العلم المطلق بماضي الإنسان وحاضره ومستقبله، فهو أعلم بما ينطوي عليه كل فعل من خير للإنسان أو شر. خلق الله في الإنسان عقلا وهيأه لأن يكون على قدرة للكشف عن قيم الأفعال وتقديرها، وهذا بدليل جعله مناطا للتكليف، كما أن الشرع لم يتكلم في كثير من تفصيلات ما يصل إليه العقل، وهذا ما يعطي للعقل دور تتبع المستجدات من أفعال الإنسان وتقويمها على ضوء روح الشريعة ومقاصدها. للعقل حدود في تقدير الأفعال الإنسانية، إذ أنه يتحرك في معطيات الزمان والمكان المحدودة، فإذا كان دور الوحي الإخبار بقيم الأفعال، فإن دور العقل استيعاب ذلك الخبر وتمثل التقدير الشرعي. والحقيقة العلمية الثابتة لا تصطدم بحقيقة شرعية ثابتة، ويأول الظني منهما ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالإتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار. وإذا لم يرد الوحي بتقدير بعض الأفعال فإن للعقل أن يقدرها وذلك على ضوء روح الشريعة ومقاصد المصلحة العامة، وما مشروعية الاجتهاد إلا إقرار بهذا الدور للعقل.

منهج التعامل مع الوحي فهما وتطبيقا

إن "حركة الاتجاه الإسلامي"، انطلاقا من التزامها بمبادئ الإسلام في عملية إحداث التغيير الاجتماعي الشامل، تعتمد في إطار تعاملها مع نصوص الوحي من الأصول والقواعد ما يلبي احتياجات الحياة المتجددة، تحقيقا لمصلحة الإنسان دون إهدار أو تعطيل لنصوص الكتاب والسنة، ودون إلغاء لدور العقل في فهمها وتنزيلها في واقع الحياة. هذا المنهج ذو مرحلتين: مرحلة الفهم، ومرحلة التطبيق الواقعي.